تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 302 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 302

302 : تفسير الصفحة رقم 302 من القرآن الكريم

** فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا رَكِبَا فِي السّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً
يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر, أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا, واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه, فركبا في السفينة, وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة, وأنهم عرفوا الخضر, فحملوهما بغير نول, يعني بغير أجرة, تكرمة للخضر, فلما استقلت بهم السفينة في البحر ولججت, أي دخلت اللجة, قام الخضر فخرقها, واستخرج لوحاً من ألواحها ثم رقعها, فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه {أخرقتها لتغرق أهله} وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل, كما قال الشاعر:
لدوا للموت وابنوا للخراب
{لقد جئت شيئاً إمر} قال مجاهد: منكراً. وقال قتادة: عجباً, فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط {ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبر} يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً, وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر علي فيها, لأنك لم تحط بها خبراً ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت {قال} أي موسى {لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسر} أي لا تضيق علي ولا تشدد علي, ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسياناً».

** فَانْطَلَقَا حَتّىَ إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لّكَ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لّدُنّي عُذْراً
يقول تعالى: {فانطلق} أي بعد ذلك {حتى إذا لقيا غلاماً فقتله} وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى, وأنه عمد إليه من بينهم, وكان أحسنهم وأجملهم وأضوأهم فقتله, وروي أنه احتز رأسه, وقيل رضخه بحجر, وفي رواية اقتلعه بيده, والله أعلم, فلما شاهد موسى عليه السلام هذا, أنكره أشد من الأول, وبادر فقال: {أقتلت نفساً زكية} أي صغيرة لم تعمل الحنث ولا عملت إثماً بعد فقتلته {بغير نفس} أي بغير مستند لقتله {لقد جئت شيئاً نكر} أي ظاهر النكارة { قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبر} فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول, فلهذا قال له موسى: {إن سألتك عن شيء بعده} أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة {فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذر} أي أعذرت إليّ مرة بعد مرة, قال ابن جرير: حدثنا عبد الله بن أبي زياد, حدثنا حجاج بن محمد عن حمزة الزيات عن أبي إسحاق, عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, عن أبي بن كعب قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه, فقال ذات يوم: «رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب, ولكنه قال: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدني عذرا».

** فَانطَلَقَا حَتّىَ إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاَتّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هَـَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عّلَيْهِ صَبْراً
يقول تعالى مخبراً عنهما إنهما {انطلق} بعد المرتين الأوليين {حتى إذا أتيا أهل قرية} روى ابن جرير عن ابن سيرين أنها الأيلة, وفي الحديث «حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً» أي بخلاء {استطعما أهلهافأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض} إسناد الإرداة ههنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة, فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل, والانقضاض هو السقوط. وقوله: {فأقامه} أي فرده إلى حالة الاستقامة, وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله, وهذا خارق, فعند ذلك قال موسى له {لو شئت لاتخذت عليه أجر} أي لأجل أنهم لم يضيفونا, كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً {قال هذا فراق بيني وبيك} أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها, فلا تصاحبني فهو فراق بيني وبينك {سأنبئك بتأويل} أي بتفسير {ما لم تسطع عليه صبر}.

** أَمّا السّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَآءَهُم مّلِكٌ يَأْخُذُ كُلّ سَفِينَةٍ غَصْباً
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام, وما كان أنكر ظاهره, وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة, فقال: إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة {يأخذ كل سفينة} صالحة أي جيدة {غصب} فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها, فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها, وقد قيل إنهم أيتام, وروى ابن جريج عن وهب بن سليمان, عن شعيب الجبائي أن اسم الملك هدد بن بدد, وقد تقدم أيضاً في رواية البخاري, وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق وهو من الملوك المنصوص عليهم في التوارة, والله أعلم.

** وَأَمّا الْغُلاَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبّهُمَا خَيْراً مّنْهُ زَكَـاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً
قد تقدم أن هذا الغلام كان اسمه جيسور. وفي هذا الحديث عن ابن عباس عن أبي بن كعب, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً» رواه ابن جرير من حديث ابن إسحاق عن سعيد عن ابن عباس به, ولهذا قال: {فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفر} أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر, قال قتادة: قد فرح به أبواه حين ولد, وحزنا عليه حين قتل, ولو بقي لكان فيه هلاكهما, فليرض امرؤ بقضاء الله, فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب, وصح في الحديث «لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلا كان خيراً له» وقال تعالى: { وعسى أن تكرهواً شيئاً وهو خير لكم} وقوله {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وأقرب رحم} أي ولداً أزكى من هذا, وهما أرحم به منه, قاله ابن جريج. وقال قتادة: أبرّ بوالديه, وقد تقدم أنهما بدلا جارية. وقيل: لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم, قاله ابن جريج.

** وَأَمّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مّن رّبّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِـع عّلَيْهِ صَبْراً
في هذه الاَية دليل على إطلاق القرية على المدينة, لأنه قال أولاً {حتى إذا أتيا أهل قرية} وقال ههنا {فكان لغلامين يتيمين في المدينة} كما قال تعالى: {فكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك} {وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم} يعني مكة والطائف, ومعنى الاَية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة, وكان تحته كنز لهما. قال عكرمة وقتادة وغير واحد: وكان تحته مال مدفون لهما, وهو ظاهر السياق من الاَية, وهو اختيار ابن جرير رحمه الله.
وقال العوفي عن ابن عباس: كان تحته كنز علم, وكذا قال سعيد بن جبير, وقال مجاهد: صحف فيها علم, وقد ورد في حديث مرفوع ما يقوي ذلك. قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده المشهور: حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري, حدثنا بشر بن المنذر, حدثنا الحارث بن عبد الله اليحصبي عن عياش بن عباس الغاني, عن ابن حجيرة عن أبي ذر رفعه قال: «إن الكنز الذي ذكره الله في كتابه لوح من ذهب مصمت, مكتوب فيه: عجبت لمن أيقن بالقدر لم نصب, وعجبت لمن ذكر النار لم ضحك, وعجبت لمن ذكر الموت لم غفل, لا إله إلا الله محمد رسول الله». وبشر بن المنذر هذا يقال له قاضي المصيصة. قال الحافظ أبو جعفر العقيلي في حديثه وهم, وقد روي في هذا آثار عن السلف, فقال ابن جرير في تفسيره: حدثني يعقوب, حدثنا الحسن بن حبيب بن ندبة, حدثنا سلمة عن نعيم العنبري وكان من جلساء الحسن قال: سمعت الحسن يعني البصري يقول في قوله: {وكان تحته كنز لهم} قال لوح من ذهب مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم, عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن, وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح, وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها, لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وحدثني يونس, أخبرنا ابن وهب, أخبرني عبد الله بن عياش عن عمر مولى غفرة قال: إن الكنز الذي قال الله في السورة التي يذكر فيها الكهف {وكان تحته كنز لهم} قال: كان لوحاً من ذهب مصمت, مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم, عجب لمن عرف النار ثم ضحك, عجب لمن أيقن بالقدر ثم نصب, عجب لمن أيقن بالموت ثم أمن, أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. وحدثني أحمد بن حازم الغفاري, حدثتنا هنادة بنت مالك الشيبانية قالت سمعت صاحبي حماد بن الوليد الثقفي يقول: سمعت جعفر بن محمد يقول في قول الله تعالى: {وكان تحته كنز لهم} قال سطران ونصف لم يتم الثالث: عجبت للموقن بالرزق كيف يتعب, وعجبت للمؤمن بالحساب كيف يغفل, وعجبت للمؤمن بالموت كيف يفرح. وقد قال الله {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} قالت: وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما, ولم يذكر منهما صلاح, وكانت بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء, وكان نساجاً, وهذا الذي ذكره هؤلاء الأئمة وورد به الحديث المتقدم, وإن صح لا ينافي قول عكرمة أنه كان مالاً, لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب, وفيه مال جزيل أكثر ما زادوا أنه كان مودعاً فيه علم, وهو حكم ومواعظ, والله أعلم.
وقوله: {وكان أبوهما صالح} فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والاَخرة بشفاعته فيهم, ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة, لتقر عينه بهم, كما جاء في القرآن ووردت به السنة. قال سعيد بن جبير عن ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما, ولم يذكر لهما صلاحاً, وتقدم أنه كان الأب السابق, فالله أعلم. وقوله: {فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهم} ههنا أسند الإرادة إلى الله تعالى, لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلا الله, وقال في الغلام {فأردنا أن يبدلهما ربهما خيراً منه زكاة} وقال في السفينة {فأردت أن أعيبه} فالله أعلم.
وقوله تعالى: {رحمة من ربك وما فعلته عن أمري} أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة, إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة, ووالدي الغلام وولدي الرجل الصالح, وما فعلته عن أمري أي لكني أمرت به ووقفت عليه, وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله: {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علم} وقال آخرون: كان رسولاً. وقيل: بل كان ملكاً, نقله الماوردي في تفسيره, وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً, بل كان ولياً, فالله أعلم.
وذكر ابن قتيبة في المعارف أن اسم الخضر بليا بن ملكان بن فالغ بن عامر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح عليه السلام, قالوا: وكان يكنى أبا العباس, ويلقب بالخضر, وكان من أبناء الملوك, ذكره النووي في تهذيب الأسماء, وحكى هو وغيره في كونه باقياً إلى الاَن, ثم إلى يوم القيامة قولين, ومال هو وابن الصلاح إلى بقائه, وذكروا في ذلك حكايات وآثاراً عن السلف وغيرهم, وجاء ذكره في بعض الأحاديث, ولا يصح شيء من ذلك, وأشهرها حديث التعزية, وإسناده ضعيف, ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك, واحتجوا بقوله تعالى: {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد} وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر «اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» وبأنه لم ينقل أنه جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده ولا قاتل معه, ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين: الجن والإنس, وقد قال: «لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي» وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف, إلى غير ذلك من الدلائل.
قال الإمام أحمد: حدثنا يحيى بن آدم, حدثنا ابن المبارك عن معمر عن همام بن منبه, عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في الخضر قال: «إنما سمي خضراً لأنه جلس على فروة بيضاء, فإذ هي تهتز من تحته خضراء» ورواه أيضاً عن عبد الرزاق, وقد ثبت أيضاً في صحيح البخاري عن همام عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة, فإذا هي تهتز من تحته خضراء» والمراد بالفروة ههنا الحشيش اليابس وهو الهشيم من النبات, قاله عبد الزراق. وقيل: المراد بذلك وجه الأرض. وقوله: {ذلك تأويل مالم تسطع عليه صبر} أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً, ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء, ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال {تسطع} وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً, فقال {سأنبئك بتأويل مالم تستطع عليه صبر}, فقابل الأثقل بالأثقل, والأخف بالأخف, كما قال: {فما اسطاعوا أن يظهروه} وهو الصعود إلى أعلاه {وما استطاعوا له نقب} وهو أشق من ذلك, فقابل كلاً بما يناسبه لفظاً ومعنى, والله أعلم.
فإن قيل: فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك ؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر وذكر ما كان بينهما, وفتى موسى معه تبع, وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في الصحاح وغيرها أنه يوشع بن نون, وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام, هذا يدل على ضعف ما أورده ابن جرير في تفسيره حيث قال: حدثناابن حميد, حدثنا سلمة: حدثني ابن إسحاق عن الحسن بن عمارة عن أبيه عن عكرمة قال: قيل لابن عباس: لم نسمع لفتى موسى بذكر من حديث, وقد كان معه ؟ قال ابن عباس فيما يذكر من حديث الفتى, قال: شرب الفتى من الماء فخلد, فأخذه العالم فطابق به سفينة, ثم أرسله في البحر فإنها لتموج به إلى يوم القيامة, وذلك أنه لم يكن له أن يشرب منه فشرب, إسناده ضعيف, والحسن متروك, وأبوه غير معروف.

** وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُواْ عَلَيْكُم مّنْهُ ذِكْراً * إِنّا مَكّنّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلّ شَيْءٍ سَبَباً
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {ويسألونك} يا محمد {عن ذي القرنين} أي عن خبره وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض, وعن فتية لا يدرى ما صنعوا, وعن الروح, فنزلت سورة الكهف, وقد أورد ابن جرير ههنا والأموي في مغازيه حديثاً أسنده, وهو ضعيف, عن عقبة بن عامر أن نفراً من اليهود جاءوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين, فأخبرهم بما جاءوا له ابتداء, فكان فيما أخبرهم به أنه كان شاباً من الروم, وأنه بنى الاسكندرية, وأنه علا به ملك إلى السماء وذهب به إلى السد, ورأى أقواماً وجوههم مثل وجه الكلاب, وفيه طول ونكارة, ورفعه لا يصح, وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل.
والعجب أن أبا زرعة الرازي مع جلالة قدره, ساقه بتمامه في كتابه دلائل النبوة, وذلك غريب منه, وفيه من النكارة أنه من الروم, وإنما الذي كان من الروم الاسكندر الثاني, وهو ابن فيلبس المقدوني الذي تؤرخ به الروم, فأما الأول فقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به واتبعه, وكان وزيره الخضر عليه السلام, وأما الثاني فهو اسكندر بن فيلبس المقدوني اليوناني, وكان وزيره ارسطاطاليس الفيلسوف المشهور. والله أعلم. وهو الذي تؤرخ من مملكته ملة الروم, وقد كان قبل المسيح عليه السلام بنحو ثلثمائة سنة, فأما الأول المذكور في القرآن, فكان في زمن الخليل, كما ذكره الأزرقي وغيره, وأنه طاف مع الخليل عليه السلام بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم عليه السلام, وقرب إلى الله قرباناً, وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب البداية والنهاية بما فيه كفاية, ولله الحمد.
وقال وهب بن منبه: كان ملكا, وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس, قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين. وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل قال: سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين. فقال: كان عبداً ناصحاً لله, فناصحه, دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه, فمات, فأحياه الله, فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات, فسمي ذا القرنين, وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل سمع علياً يقول ذلك. ويقال: إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب.
وقوله: {إنا مكنا له في الأرض} أي أعطيناه ملكاً عظيماً ممكناً فيه من جيمع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنودوآلات الحرب والحصارات, ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض, ودانت له البلاد, وخضعت له ملوك العباد, وخدمته الأمم من العرب والعجم, ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وقوله: {وآتيناه من كل شيء سبب} قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة والسدي وقتادة والضحاك وغيرهم: يعني علماً. وقال قتادة أيضاً في قوله {وآتيناه من كل شيء سبب} قال: منازل الأرض وأعلامها.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {وآتيناه من كل شيء سبب} قال: تعليم الألسنة, قال: كان لا يغزو قوماً إلا كلمهم بلسانهم, وقال ابن لهيعة, حدثني سالم بن غيلان عن سعيد بن أبي هلال أن معاوية بن أبي سفيان قال لكعب الأحبار: أنت تقول: إن ذا القرنين كان يربط خيله بالثريا ؟ فقال له كعب: إن كنت قلت ذلك فإن الله تعالى قال: {وآتيناه من كل شيء سبب} وهذا الذي أنكره معاوية رضي الله عنه على كعب الأحبار هو الصواب, والحق مع معاوية في ذلك الإنكار, فإن معاوية كان يقول عن كعب: إن كنا لنبلو عليه الكذب, يعني فيما ينقله, لا أنه كان يتعمد نقل ما ليس في صحفه, ولكن الشأن في صحفه أنها من الإسرائيليات التي غالبها مبدل مصحف محرف مختلق, ولا حاجة لنا مع خبر الله تعالى ورسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شيء منها بالكلية, فإنه دخل منها على الناس شر كثير وفساد عريض. وتأويل كعب قول الله {وآتيناه من كل شيء سبب} واستشهاده في ذلك على ما يجده في صحفه من أنه كان يربط خيله بالثريا غير صحيح ولا مطابق, فإنه لا سبيل للبشر إلى شيء من ذلك, ولا إلى الترقي في أسباب السموات, وقد قال الله في حق بلقيس {وأوتيت من كل شيء} أنه مما يؤتى مثلها من الملوك, وهكذا ذو القرنين, يسر الله له الأسباب, أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرساتيق والبلاد والأراضي, وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض وإذلال أهل الشرك قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سبباً والله أعلم. وفي المختارة للحافظ الضياء المقدسي من طريق قتيبة عن أبي عوانة عن سماك بن حرب عن حبيب بن حماز قال: كنت عند علي رضي الله عنه وسأله رجل عن ذي القرنين كيف بلغ المشرق والمغرب ؟ فقال سبحان الله سخر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد.